بين حرية التعبير وحرية المعتقد، كيف نتفادى خطاب الكراهية؟
تنص (المادة 19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن حرية الرأي والتعبير هي حق أساسي من حقوق الإنسان، ويشمل هذا الحق “حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.” وعليه، حرية الرأي والتعبير تعني قدرة الفرد أو الجماعة على التعبير عن أفكارهم ومعتقداتهم وآرائهم وتوجهاتهم دون الخوف من أي ضغوط أو التعرض لأي عقوبات أو تمييز أو اساءة بسببها.
تأتي حرية المعتقد بالتوازي مع حرية الرأي والتعبير، فهي مكفولة بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 18)، وتنص على “الحق في اعتناق الفرد أي دين يختاره وإظهار دينه في العبادة”. وتشمل هذه الحرية، حرية اعتناق أي دين أو معتقد، أو عدم اعتناق أي منهما أو تغييرهما أو التخلي عنهما.
يتداخل الحق في حرية الرأي والتعبير مع معظم الحقوق الأخرى، ويشكل حالة جدلية خاصة في شكل الديمقراطية الحديث، تدني مستويات الوعي المجتمعي وغياب القوانين الكافية يمكن أن يحول أي حق إلى أداة في وجه حقوق أخرى، كما أن ترك هذه الحقوق دون رسم معالم واضحة وأسس وقوانين تجعل من الصعب التمييز بين الحرية والازدراء، وبين الاعتقاد وخطاب الكراهية.
لا يوجد وصفة سحرية لضمان أن لا يحدث تضارب بين هذه الحقوق. تبقى مساحات الاشتباك موجودة. يمكن القول أن وظيفة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني البحث والتعمق والوصول إلى أفضل الممارسات التي يمكن من خلالها ضمان السلم الأهلي بين المواطنين. ممارسات تضمن حرية الرأي والتعبير وممارسة النقد من جهة، بالتوازي مع احترام عقائد الناس ودياناتهم من جهة أخرى.
القوانين في وجه خطاب الكراهية
تواجه بعض الجماعات صعوبة في التعبير عن آرائها، وممارسة شعائرها الدينية بكامل حريتها، حتى في الدول التي وقعت على الاتفاقيات والعهود الدولية المعنية بحقوق الإنسان، لأن الممارسة المضادة يمكن أن تصدر عن جهات أخرى غير حكومية، وهنا يأتي الحديث عن دور هذه الحكومات في حماية الأفراد وفق ما ينص دستورها، لكن نتيجة التقصير أو لوجود اعتبارات سياسية أو اجتماعية خاصة، قد تتغاضى الحكومات عن تطبيق هذه القوانين، أو أن تطبقها في حالات دون أخرى وفق مصالحها، وهذا ما يعرض الكثيرين لخطر الكراهية، ويحرمهم من حقوقهم في التعبير والاعتقاد.
إن غياب القوانين المنظمة لا يعني فقط عدم تأمين الحماية او الحرية الكافية للجماعات والأقليات، بل يساهم بشكل مباشر في ازدياد خطاب الكراهية، حيث يصبح هو السائد والمقبول، وهذا يؤثر سلبًا على المجتمعات لا سيما المختلطة منها، فالكراهية ستصبح متبادلة وقد تتصاعد لتصل لارتكاب جرائم كراهية، سواءً على صعيد فردي أو جماعي.
من جهة أخرى، هناك دول وأنظمة تمارس الكراهية والتمييز ضد أقليات دينية من مواطنيها، ليس فقط من خلال عدم تطبيق القوانين المنصوص عليها، بل من خلال استهداف مباشر وممنهج في كافة مؤسساتها وخدماتها وواجباتها تجاههم، وهذا يظهر جليًا في البلدان التي تعطي الأفضلية في الوظائف العامة والمؤسسات الأمنية لجماعة دينية على حساب الأخرى، دون الالتزام بمعايير الكفاءة، كما يمكن استهداف جماعات دينية معينة متواجدة ضمن العمل الحكومي، من خلال معاقبة أو طرد الموظفين بشكل تعسفي تحت ذرائع وهمية.
ويمكن أيضًا أن تتعمد الحكومة إهمال المناطق التي يجتمع فيها عدد من أبناء طائفة واحدة، وتركيز الخدمات والإصلاحات والمشاريع الإنمائية في أماكن على حساب الأخرى. كما يمكن أن يصدر خطاب الكراهية من الدولة عبر وسائل إعلامها الرسمية ومنصاتها والمسؤولين فيها، سواء أكان بشكل واضح ومباشر، أم من خلال رسائل مبطنة وغير مباشرة.
الحرية كحق إنساني
على مر العصور، سعى الإنسان لانتزاع حرياته الواحدة تلو الأخرى، وما زال يقدم حتى اليوم في سبيل ذلك تضحيات معنوية ومادية وبشرية هائلة، إلى أن وصل مفهوم الحرية إلى ما هو عليه اليوم، وأصبحت مقياسًا للصوابية في عديد من المواقف والاستحقاقات، لكن اختلاف البشر، وتنوع رغباتهم واعتقاداتهم وأفكارهم، وتعارضها في كثير من الأحيان، جعلت من مفهوم الحرية واسعًا وحمالًا للتأويلات.
تحتوي بعض النصوص والروايات الدينية على تعاليم ومبادئ قائمة على كراهية بعض الأديان الأخرى، أو رموز من رموزها. هناك فئة من المتدينين الذي يقومون باستخدام هذه النصوص من أجل خلق عداوات مع معتنقي هذه الأديان في الوقت الراهن، و يتعمدون الإساءة لرموزهم وعقائدهم تحت مظلة هذه العداوة، وإيمانًا بصوابية ما تحتويهم كتبتهم. قبالة ذلك، يعتقد بعض الكتاب أو المثقفين أن نقد حرية الرأي والانتقاد تسمح لهم بالسخرية والازدراء من عقائد الآخرين ومذاهبهم.
تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي اليوم بمقاطع مصورة لرجال دين يتداولون روايات وأحاديث تحرض على الآخر، ودائمًا ما تنشأ حروب افتراضية بين المتفاعلين في هذه المنصات حيث ينهالون على بعضهم البعض بالشتائم والتهديدات والإساءات المتبادلة. كذلك الأمر تضج المنصات بمنشورات ووسوم تحرض على فئات معينة.
هناك ايضًا التيارات العلمانية والليبرالية الجديدة التي تمتلك خطاب إما مناهض للأديان أو مناهض لتداخلها مع أنظمة الحكم، وقد يتخطى هذا الخطاب حدود النقد الطبيعي ويصل إلى الإساءة والسخرية من الأديان، وهذا ما يؤدي غالبًا إلى هجوم واسع من قبل شريحة من المتدينين، يتضمنه إساءات و إتهامات وتحريض ضد هذه الجماعات. حتى في الحالات التي يكون فيها النقد طبيعيًا أو ضمن حدود المنطق، قد لا يتقبل البعض أي اختلاف مع الآخر، وأي تعليق يمس عقائدهم وقناعاتهم ويشكك في صحتها. في الحالتين، هناك خطاب كراهية يأخذ شكلاً حادًا وخطيرًا لما يشكل الدين من مسألة حساسة عند البشر.
الاعتدال يحمي الجميع
لا ينبغي أن يشكل حصول فرد على حقه بالتأثير سلبًا على حقوق الآخرين، ولا يجوز أن يتعرض الفرد لأي أذى أو ضغوطات أو تمييز أو خطر لممارسته حقًا من حقوقه، لذا ينبغي على كل الجهات أن تتحمل مسؤوليتها القانونية والأخلاقية والإنسانية، للحفاظ على هذه الحقوق ولمواجهة خطاب الكراهية.
الدولة مسؤولة عن الحفاظ على نسيجها الاجتماعي، لذا فالتغاضي عن وجود أي خطاب كراهية سواء كان عبرها أم عبر جهات أخرى، يؤدي إلى خطر كبير على الأفراد والمجتمع ككل. في المقابل، على الأفراد تعلم احترام الآخر وحقه، ومراعاة الحد الفاصل بين الإيمان والتحريض، وبين حرية إبداء الرأي والتعبير عنه وبين الازدراء والسخرية من الآخرين.