هل تحتاج دول الرفاه في الخليج للنقد والمراقبة؟
تُصَنّف دول الخليج العربية ضمن دول الرفاه الاجتماعي والاقتصادي. فهل هناك أهمية أو حاجة لإتاحة حق النقد في مثل هذه الدول أم أن النقد مجرّد قيمة فائضة؟ تنبع أهمية مثل هذا السؤال من كونها دول رفاه. قد لا يكتسي السؤال هذا طابعاً إشكالياً في الدول التي لا تقوم بهذا الدور وتتقلص فيها أدوار الدولة إلى الجوانب التنظيمية والإدارية. لكن بالنسبة إلى دول الخليج فالأمر مختلف. إذ تقوم الدولة بتقديم رعاية كبيرة إلى مواطنيها حبر حزم الخدمات المجانية مثل التعليم والعلاج المجاني ومزايا الإسكان والنهوض بأعباء التوظيف وإعطاء منَح التعطل إضافة إلى دعم السلع الأساسية.
ثمة إشكالية تطرح هنا بل في الحقيقة كثيراً ما تصادف أحدنا مفادها هو: ما دمت تحصل على كل ذلك على هذا النحو، فما هو مبرر انتقادك لسلطات بلدك أو مطالباتك بتغييرات معينة تقوض شكل السلطة التقليدي المتعارف عليه؟ العديد من الحقوق الأساسية أصبح تحقيقها أو عدم تحقيقها مربوطاً بوجود دولة الرفاه ومن ذلك حق الكلام ونقد السلطات السياسية.
النفط نقطة التحول
ارتبط وجود الرفاه في الدول الخليجية باكتشاف النفط. هي ليست كالصين على سبيل المثال التي ارتبط الرفاه فيها بالإنتاج الضخم والنمو الاقتصادي وشبكات الأمان الاجتماعي. ولا هي مثل الدول الاسكندنافية التي يقوم الرفاه فيها على فرض ضرائب كبيرة على الأغنياء و المقتدرين وإعادة توزيعها على البقية. كما أنها طبعاً ليست أمريكا التي تحقق الرفاه عبر تنظيم الأسواق والسيطرة على التضخم والاستثمار في البنية التحتية. إن عملية صناعة الرفاه في الخليج تعود إلى حد كبير إلى توافر الموارد الطبيعية الباطنية كالنفط والغاز.
رغم أن دولاً عربية أخرى تتوافر هي الأخرى أيضاً على مثل هذه الموارد الطبيعية إلا أنها فشلت في تحقيق الرفاه لشعوبها، كما هو الحال في ليبيا والعراق والجزائر. وعلى العكس منها فقد نجحت الدولة في الخليج عبر استقرارها الطويل في تحقيق هذا الجانب ما يمكن اعتباره نجاحاً.
نهاية دولة الرفاه
المشكلة التي أصبحت تتبدّى أمامنا بوضوح اليوم هو أننا نشهد حالياً بداية تفكك دولة الرفاه الاجتماعي التي اعتاد عليها المواطنون الخليجيون طيلة العقود الخمسة الماضية. يجري هذا التفكك ببطء؛ ولكن في وتيرة متواصلة ومتصاعدة.
إن الرفاه الآن في منطقة الخليج ليس الرفاه الذي عاشه الآباء والأجداد الذين عاصروا لحظة اكتشاف النفط وما بعدها وقيام الدولة الريعية. فالحديث اليوم يدور حول نهاية دولة الرفاه وإعادة ابتكارها. ولعلّ تصريح رئيس الوزراء الكويتي السابق الشيخ جابر المبارك الصباح الذي تطرق فيه إلى أن “دولة الرفاه التي تعوّدها الكويتيون لن تستمر طويلا” هو أحد الإنذارات المبكرة لذلك.
مع الانهيار السريع في أسعار النفط أواخر العام 2014 انكشفت ميزانيات دول الخليج مظهرة عجوزات هائلة. كان رد دول الخليج على ذلك بفرض العديد من الضرائب ورفع الدعم عن سلع أساسية بما في ذلك المحروقات التي تمثل ما يمكن اعتباره درّة تاج الرفاه الخليجي.
فقد أعلنت سلطنة عمان عن نيتها فرض ضرائب على الدخول المرتفعة بدءاً من هذا العام. وقامت المملكة العربية السعودية بتخفيض الإنفاق الحكومي وإلغاء بعض الامتيازات للموظفين الحكوميين. فيما أقرّت كل من البحرين والإمارات وقطر وعمان تطبيق ضريبة القيمة المضافة على السلع والخدمات في كامل سلسلة التوريد بنسبة 5 % ثم رفعت في البحرين إلى 10 %. هذا ويتوقع المحللون أن تحذو الكويت شقيقاتها بفرض ضريبة القيمة المضافة بدءاً من العام 2023.
وحتى في ظل تحسن أسعار النفط وملامستها سقف 75 دولاراً إلا أن ذلك لم يكن مفتاحاً لإلغاء هذه الضرائب التي تم فرضها ما يعطي مؤشراً على تحوّلات دولة الرفاه في الخليج والجدل المطروح حول إعادة ابتكارها.
قبال ذلك، وهنا نصل إلى قلب الإشكالية الرئيسة التي نناقشها هنا، ليس ثمّة توجه إلى إعادة ابتكار أو على الأقل تخفيف القيود السابقة التي عاصرت قيام دولة الرفاه كفرض الصمت ومصادرة حق النقد أو طرح مقاربة جديدة له بحيث يتم اعتبار النقد أمراً عادياً لا يهدد أمن الدولة أو استقرارها على سبيل المثال.
الحاجة إلى إتاحة النقد
أساساً فإن ربط حق نقد السلطة السياسية أو عدمه بوجود دولة الرفاه، أو جعل الأمرين في صراع وجودي لا يقوم أحدهما إلا بإفناء الآخر، هو أمر خاطيء. لم تبتكر دول الخليج مفهوم الرفاه ولا هي الدول الوحيدة التي تقدم مزايا مجانية للمواطنين. على سبيل المثال تعد الدول الاسكندنافية ودول غرب أوروبا من دول الرفاه أيضاً إلا أن مقاربتها لاتقوم على كتم الأصوات ومنع النقد والمحاسبة. بل على العكس فهي تتيح مساحة كبيرة للنقد مع قيود قليلة. فما المانع من أن تتبنى دول الخليج مثل هذه المقاربة التي يتماشى فيها الرفاه مع حق الناس في نقد أوضاعهم وأخطاء النخب التي تحكمهم في مسارين متوازيين لا متصارعين!
إن الحاجة إلى إتاحة النقد في البلدان الخليجية تتضاعف أكثر مع معرفة أن عامل الرفاه الأساسي فيها أي النفط والغاز هما موردان طبيعيان معرّضان للزوال.
يتنبأ صندوق النقد الدولي بأن تستنفذ دول مجلس التعاون الخليجي مع حلول العام 2034 معظم احتياطاتها من النفط والبالغة 2 تريليون دولار. أما مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية الاقتصادية المرموقة فترسم صورة قاتمة لمستقبل النفط مثل مواصلة تدنّي أسعاره في ظل زيادة القدرة التنافسية لمصادر الطاقة النظيفة. وتقول إن ما رأيناه خلال جائحة كورونا ليس سوى بروفة بسيطة لما سيكون عليه شكل المستقبل.
تحتاج دول الخليج إلى مقاربة جديدة تضع في الاعتبار كل هذه المعطيات. من الواضح أنها تتجه إلى أن تكون دولاً أقلّ رفاهاً. إن قصقصة رفاهية مواطنيها عملية جارية وهي تتم تحت ذرائع مختلفة. وما لا يقال هنا هو أن طبقة المتنفذين فيها قد تضخمت إلى حد كبير جداً بحيث أن إرضاءها أصبح يتطلب أخذ الضرائب من الفقراء وتوزيعها على الأغنياء.
يمثل هذا نذير شؤم. فإذا ما عطفناه على تكميم الأفواه ومواصلة التكتيكات السابقة التي تدخل الآراء في صلب التحرّزات الأمنية وتمنع المواطنين من حق مناقشة الأوضاع العامة بصراحة فإن هذا سيشكل مخاطر كبيرة على دول الخليج ويحولها إلى فضاء من القهر والحرمان والاضطرابات السياسية والمجتمعية.
إن حق الناس في الكلام والمساءلة والنقد هو جزء لا يتجزأ من دولة الرفاه. وهو ما يعني أن عكس المقاربة السابقة هو الصحيح. لكي يحيا الخليجي في دولة رفاه حقيقية ينبغي أن يكون لديه الحق في أن ينتقد ويتكلم ويسأل من دون خوف. لذلك لابد من مراجعة السياسات الخاطئة مثل إسكات الناس ومنع النقد وتصويره بأنه شكل من أشكال التهديد للدولة.
تمر دول الخليج بمرحلة انتقالية يتم فيها مراجعة نموذج دولة الرفاه. وحبذا مراجعة أشياء كثيرة معه.
للإستماع إلى بودكاست “توّ النهار” حول هذا الموضوع إضغط هنا.