لماذا يكيل الخليجي القضايا الداخلية والخارجية بمكيالين؟

في روايته الشهيرة 1984 يصف لنا الروائي البريطاني جورج أورويل “التفكير المزدوج” قائلاً إنه حمل الفكرة ونقيضها في الوقت نفسه. وفي ثقافتنا العربية نقول “الكيْل بمكيالين” لوصف الأمر ذاته. مجموعة من المبادئ نستخدمها لقبول شيء ما عند مجموعة من الناس؛ لكنها – للمفارقة – المبادئ نفسها أيضاً التي نستخدمها لرفض شيء مماثل عند مجموعة أخرى واعتباره من المحرمات. 

إن شئت وصفاً لحال عدد لا بأس به من مثقفي الخليج و نخبها والعديد من نشطائنا و مواطنينا في دول الخليج ومواقفهم إزاء العديد من المشكلات التي تشغل بلدانهم والبلدان الأخرى فهذا هو الوصف المناسب: ازدواجية الكيل بمكيالين. 

تجد الشخص منا متحمساً لإقامة الديمقراطية والحرية في مصر وسوريا مثلاً؛ لكن هذا الشخص نفسه ضد أي تغيير من هذا النوع في بلده الخليجي. تجده “راعي الفزعة” وحملات التضامن والتحشيد من أجل حقوق اللاجئين السوريين في أوروبا وحركة “حياة السود مهمة” في الولايات المتحدة؛ ولكنك لن تجده يقوم بأي نوع من الضغط في بلده من أجل استقبال لاجيء سوري واحد.

وهناك بيننا من يستنكر رفض دول أوروبية رفع الأذان من المساجد؛ ولكن هذا هو نفسه الذي قد يهبّ مستنكراً بناء كنيسة في بلده. وهناك من يساند نضال المرأة في إيران داعياً لضمان حقها في خلع الحجاب؛ ولكنه هو نفسه الذي قد يقدم على ضرب أخته أو زوجته لو قررت الخروج من المنزل بغير حجابها أو النقاب. 

تناقضات لا يمكن فهمها على الإطلاق. وقديما قال أبو الأسود الدؤلي في بيت الشعر الشهير المنسوب له: “لا تنهَ عن خلق وتأتى بمثله/ عار عليك إذا فعلت عظيم”. لكن عندنا فهذا هو الحال. 

أعطتنا أحداث الربيع العربي والأزمة الخليجية وحتى في دورة كأس العالم الجارية فعالياتها هذه الأيام من العاصمة القطرية الدوحة العديد من الأمثلة على ذلك. دائماً ما تصطدم رحابة الأفكار والتطلعات والمطاليب بجدار معيّن تغدو معه الرحابة ضيقاً. هذا الجدار هو المكان “عند استبداله بمكان آخر”؛ أو الجماعة “عند استبدالها بجماعة أخرى”؛ أو بصورة عامّة الهوية “عند استبدالها بهوية أخرى”. 

هنا تبرز التناقضات العميقة التي تساق لها التبريرات تلو التبريرات.

لكن لماذا ذلك؟ 

في الحقيقة يصعب تقديم تفسير واحد لهذه الظاهرة. إنها مجموعة من العوامل التي تتظافر مع بعضها؛ وأحياناً ينوب الواحد منها عن الآخر، منتجة لنا الخليجي المزدوج المعايير والذي يكيل بمكيالين. سنكتفي هنا بصياغة هذه العوامل في شكل أسئلة لإبقاء الحوار حولها مفتوحاً وعدم جعل الإجابة حولها نهائية بحيث تأخذ شكل الوصْمة أو حكم القيمة أو التعميم المخلّ.

هل الازدواجية نابعة عن أن الدولة في الخليج قوية وحازمة وعنيفة ما يجعل المثقفين والنخب عاجزين عن بيان مواقفهم بصراحة إزاء ما يجري في بلدانهم؟ بالتالي هم يجدون في التعليق على أحداث البلدان الأخرى وسيلة للهروب من مشكلات بلدانهم الحقيقية وكلفها الباهظة. 

هل الازدواجية نابعة عن أن الدولة الجامعة عندنا ما تزال “مهمة غير منجزة”؟ بالتّالي فإن ما يحدد اهتماماتنا وأولوياتنا إزاء القضايا المختلفة التي تعصف ببلداننا والبلدان الأخرى هي العائلة والقبيلة والطائفة لا الاعتبارات والأخلاقيات العامة. إن التأخر في إنجاز الدولة يجرّ معه تلقائياً التأخر أيضاً في التحوّل إلى شعب بالمعنى الحقيقي والحديث لكلمة شعب لا مجرد رعايا للحاكم أو ولي الأمر. 

ينتج عن ذلك أن ما يحدد طريقة فهمنا ونقدنا للأمور هو عائلة أو قبيلة من تعنيهم. أي أن الطائفية والقبلية والعائلية هي التي توجه أحكامنا على القضايا في دولنا لا أيّ شيء آخر.

هل الازدواجية نابعة عن أننا نعيش في عصر نهاية الأيديولوجيا؟ بمعنى أنه لم تعد هناك أفكار كبيرة تعطينا رؤية شمولية لمشكلات بلداننا وتؤدي دورا يشبه دور المايسترو أو “ضابط الإيقاع” في الفرقة الموسيقية. إن معظم مثقفينا قد أصبحوا الآن غير مؤدلجين ولا ملتزمين مبدئياً بأفكار تغييريّة كبيرة. 

نتيجة لذلك فقد غدت مواقف كثير من فئات النخب والمثقفين في الخليج العربي رجراجة متحركة وسهلة التحوّل من الشيء إلى نقيضه من دون الشعور بأثر المعايير المزدوجة علينا.   

هل الازدواجية نابعة عن أننا مرتبطون بأنظمة مصالح معقدة ومتشابكة تجعلنا نرى الأشياء بمنظور هذه المصالح؟ لقد أصبح الإعلام والمثقفون جزءاً من لعبة المصالح. بالتالي فإن تغير المواقف أو تجاهلها المتعمد إلى قضايا معينة راجع في الأول والأخير إلى لعبة مصالح مفهومة ومقصودة وليس إلى سلوك ازدواجي لاواعي فات أمره على صاحبه. 

أي أنه إذا كان دعم وتأييد الثورة في سوريا يخدم مصالحنا فإنه سيجري الاستثمار فيه لتعلو معه لغة التغيير والديمقراطية. أما إذا كان العكس أي دعم النظام هو الذي يخدم مصالحنا فهنا سنجد أن لغة أخرى هي التي تعلو شاجبة الفوضى والتخريب وداعية إلى الالتزام بالقانون.

حاجة للمصارحة 

خلال افتتاح دورة كأس العالم في قطر أدلى رئيس الفيفا جياني إنفانتينو بتصريحات لافتة دعا فيها الدول الأوروبية إلى “الاعتذار لـ 3 آلاف سنة قادمة عن ما فعلته في الـ3 آلاف سنة الماضية قبل أن تفكر في إعطاء دروس أخلاقية إلى الآخرين”. أثارت تصريحاته كثيرا من ردود الأفعال في الدول الأوروبية وخاصة في ألمانيا. فيما يجري الآن الحديث عن احتمال خسارته لمنصبه في الانتخابات المقبلة بسبب ذلك. 

سواء خسر منصبه أو ظلّ على رأس عمله رئيساً لأكثر الرياضات شعبية في العالم لكن تصريحاته أو الأصح “مصارحاته” قد فعلت فعلها. وهذا ما يحتاجه المثقف والمواطن في الخليج العربي على وجه الخصوص. مصارحته بنقصانه وأوجه ازدواجيته مقارنة بتفاعله مع قضاياه ومشكلات بلده وتفاعله مع قضايا ومشكلات البلدان الأخرى. هناك حاجة لمواصلة طرح المزيد من الأسئلة على أنفسنا بنفس الكيفية التي طرح بها “إنفانتينو” مشكلات الازدواجية في المجتمعات الأوروبية.

إن النظر والانشغال بمشكلات البلدان الأخرى أمر طبيعي في عصر العولمة. ولكن قبل ذلك أو في موازاة منها على الأقل لنلتفت قليلاً أيضاً إلى مشكلات بلداننا. إن كمية الجُهد الذي صَرَفته النخب الخليجية في محاولاتها للتأثير على الدول العربية كمصر وليبيا وسوريا وتونس واليمن من 2011 لو إنها وجّهَته إلى بلدانها لاستطاعت بالعمل الجاد والضغط المتواصل تحقيق اختراقات على مستوى الحريات العامة وإقامة الحكم الصالح. 

إن كل محاولات القفز على الدولة الوطنية باسم القومية أو الأمة أو الأممية أو الدين انتهت إلى فشَل ذريع. كما أن كل عمليات الاستثمار ما وراء الحدود انتهت إلى الفوضى وأعمال الإرهاب. هي دعوة إذن لتكريس أنفسنا لدولنا وتغيير أنفسنا قبل تغيير أي أحد آخر. 

للإستماع إلى بودكاست “توّ النهار” حول هذا الموضوع إضغط هنا.

زر الذهاب إلى الأعلى