هل يجب أن تكون لحرية الرأي والتعبير حدود؟
لا يكفي أن تكون مع حرية الرأي والتعبير حتى تغلق الإجابة على هذا السؤال. لن يكون كافياً أيضاً تكرار بعض المبادئ والمواثيق العالمية التي تنصّ على حق اعتناق الآراء كي تنجو من الإشكاليات التي يثيرها. في بلدان مثل دول مجلس التعاون الخليجي – كما في الدول الأخرى أيضاً – ما تزال هناك حاجة إلى القيام بمعالجات لهذا الموضوع تأخذ في النظر اعتبارات عدّة.
إن تكرار المبادئ ونماذج حرية الرأي والتعبير التي نرغب في جلبها إلى مجتمعاتنا قد لا تكون الشيء الممكن تطبيقه في مجتمعاتنا. إن الواقع مركّب؛ لذا فهو يحتاج إلى معالجات مركبة.
بالنسبة إلى الأنظمة الخليجية فإن إجابتها على هذا السؤال محسومة. بين دساتير تتضمّن نصوصاً جميلة وواقع بائس خاصة ما يتعلق بتناول الأوضاع الداخلية؛ تكمن الازدواجية المفجعة. قد نستثني دولة الكويت، فعلى الرغم من تراجع مرتبتها في مؤشر “مراسلون بلا حدود” لحرية الصحافة من 105 في العام 2021 إلى 158 هذا العام إلا أنه يمكن القول، مع شيء من الحذر، إن حرية الرأي والتعبير في الكويت يمكن أن تمرض ولكنها لا تموت. فما يزال هنالك هامش معقول للحرية محمي بالتقاليد والتراكم يندر مشاهدة مثيل له في بقية دول الخليج الأخرى.
لماذا هي ضرورية؟
إن الحاجة إلى حرية الرأي والتعبير ضرورية لأنّه يصعب التخطيط لأي شيء على مستوى الفرد والأسرة أو المجتمع والدولة من دون الاستناد إلى معلومات شفافة يمكن تأمينها فقط بوجود حرية الرأي والتعبير. يروي المؤرخون عن الجنرال الفرنسي نابوليون بونابرت أنه أصرّ على اصطحاب معه أثناء الحملة الفرنسية على مصر (1798م) نحو 150 عالماً من خيرة التقنيين والكيميائيين والأطباء والفلكيين وأكثر من 2000 متخصص في شتى المجالات. كانت مهمة هؤلاء هي جمع المعلومات وتسجيل الملاحظات والمشاهدات عن المجتمع المصري حتى يستفيد منها صانع القرار في فرنسا. ويمكن الاطلاع على هذه المشاهدات اليوم من خلال كتاب “وصف مصر أو مجموع الملاحظات والبحوث التي تمت في مصر خلال الحملة الفرنسية” الذي يتألف من 20 مجلداً والذي أصبح متاحاً بفعل قانون إتاحة المعلومات بعد مرور فترة مقدرة عليها.
في الخليج قام بلعب هذا الدور خلال فترة التواجد البريطاني الضابط الشهير ج. ج. لوريمر الذي وضع كتاب “دليل الخليج”. وقد جمع فيه معلومات تفصيلية مدهشة عن المجتمعات الخليجية بما في ذلك عدد الأبقار والحمير في كل قرية.
لو تخيلنا الآن أن هؤلاء العلماء لم تكن لديهم الحرية الكافية في جمع المعلومات وتسجيل الملاحظات والمشاهدات. بل العكس كانت أمامهم القيود فقط ومشاعر الخوف والنفاق والمحاباة وإسماع صانع القرار ما يودّ سماعه. إن مجرد تخيلنا ذلك كاف بوضعنا في المدى الفعلي لضرورات حرية والتعبير ولماذا هي مهمة. من دون مناخ صحي تسود فيه الحرية لن تكون هناك معلومات شفّافة ودقيقة. ومن دون معلومات شفافة ودقيقة لا يمكن إحكام السيطرة على أيّ موضوع. بل يغدو فهمنا وحكمنا على أي موضوع خاطئاً لا محالة.
حرية التعبير في الغرب
غالباً ما يتحول النقاش حول حرية الرأي والتعبير في مجتمعاتنا إلى الاستشهاد بنماذج من الغرب. غير أن الغرب نفسه أيضا هو دول قوميّة وثقافات وأعراف مختلفة. صحيح أن هناك حرية رأي كبيرة في الدول الغربية لكنها حرية لها نكهات ومقاسات ومحددات، ولها قيودها أيضاً. لحسن الحظ أن هذه القيود قليلة وهي غالباً ما تتعلق بالتحريض على الكراهية أو العنف.
في دول مثل سويسرا وألمانيا والنمسا ما تزال هناك قوانين تمنع ازدراء الأديان. إن ألمانيا هي من الدول الأوروبية القليلة التي تجرّم تجديف الأديان. كذلك الحال في سويسرا حيث ما تزال تعتبر التجديف جناية. وفي انجلترا لم تلغَ جرائم التجديف وازدراء الأديان رسميًا إلا العام 2008. أما في اسكتلندا فهي قد ألغيت العام الماضي 2021.
يختلف الوضع في فرنسا نوعاً ما حيث تتبع الدولة نموذجا متشدداً من العلمانية يدعى “اللائكية” والذي يضع الكثير من القيود على الدين كما يعتبر نفسه غير معني بأية مقدسات. لذا نلحظ على سبيل المثال أن الرسوم المسيئة إلى النبي محمد في مجلة “شارلي ابدو” اعتبرت نوعاً من حرية التعبير. لكن في المقابل في بريطانيا نجد تعاملاً آخر مع المدرس الذي نشر رسوماً مسيئة إلى النبي حيث تم إيقافه عن العمل وطرده من المدرسة. نسرد هذه الشواهد للتأكيد على الفروقات الموجودة في الدول الغربية إزاء تناول قضايا حرية الرأي والتعبير.
الدين كأقوى المشاعر
يكتسي موضوع المقدسات الدينية طابعاً ذا حساسية شديدة. هناك الكثير من السجناء يقبعون في السجون اليوم في المنطقة العربية بتهم مثل “سب الذات الإلهية” أو “إهانة رمز موضع تمجيد وتقديس لدى أهل ملة”. وفي بعض هذه الدول قد يفقد مثل هؤلاء حياتهم.
بعض هذه القضايا وليس كلها، تؤشر على الافتقار إلى الحساسية الكافية من جهة من يقومون بها. ففي منطقتنا على وجه الخصوص تمثل المشاعر الدينية رابطة من أقوى المشاعر. كما أن جميع الأديان الإبراهيمية والكتب المقدسة قامت ملحمتها الأولى في هذه المنطقة قبل أن تأخذ مسارها إلى باقي دول العالم. إن معرفة هذه الحقائق يفرض علينا أن نأخذ بحيثياتها أيضاً وليس فقط ترديد عبارات تقول إن السباب والشتائم هي نوع من حرية التعبير، إنها كذلك حقاً، لكن ماذا لو كانت تداعياتها قابلة لأن تتضخم بشكل كبير وتكون سبباً للاقتتال الأهلي! إن تناول هذه الموضوعات من دون التحلي بحساسية التفريق بين النقد والازدراء؛ أو بين حرية الرأي وإهانة المعتقدات كفيلة بخلق كل هذه المشكلات معاً بعضها أو كلها.
حرية ذات مسؤولية اجتماعية
هناك حاجة إلى تبني مفهوم آخر هو المسؤولية الاجتماعية عند طرح مفاهيم حرية الرأي والتعبير في مجتمعاتنا. نسمّي ذلك حرية رأي وتعبير ذات مسؤولية اجتماعيّة. هذه الحرية هامشها كبير لكن مع الأخذ ببعض الاعتبارات. فيها قيود ولكنها قليلة وهي غالباً ما تتعلق بوضع بعض الاعتبارات إلى أعراف المجتمع المحلي واعتقادات الناس ومقدساتهم. يمكن لحرية الرأي والتعبير ذات المسؤولية الاجتماعيّة أن تحمينا وتحمي الحق في الحرية معاً. كما يمكن لها أن تخلصنا أيضاً من الشكل الأناني المفرط للحرية المنفصل عن الواقع.
الآن، هل يجب أن يكون لحرية الرأي والتعبير حدود؟
إجابتنا هي نعم ولا في الوقت نفسه. إنما من المهم أن نترك للقطار أن ينطلق. فكما أن الحقيقة هي خطأ مصحح فإن حرية الرأي والتعبير أيضاً هي خطأ مصحح. بمعنى أنه لا بد من إتاحة المجال لمواطني دولنا أن يكتبوا ويرسموا ويعبروا عن أنفسهم. إن التجربة لوحدها كافية لتعليمهم الأمور الممكنة وغير الممكنة عند ممارسة حرية الرأي والتعبير انطلاقاً من الواقع نفسه ومن دون حرق المراحل. دعهم يخطئوا ويتعلموا. الحرمان لن يعلمنا أي شيء.