الانفتاح والتسامح في مجتمعات الخليج: الحقيقي والمُتخيل

لابد أنك قد تعرّضت مرّة واحدة على الأقل إلى تلك الصورة التي تظهر نوعاً من المفارقة في المجتمعات الخليجية على نمط (قبل وبعد). مجموعة من الفتيات الجامعيات السافرات يلبسن القصير بكامل زينتهن مع تاريخ في أسفل الصورة يشير إلى سنة التقاطها التي هي غالباً ما تشير إلى فترة السبعينات أو ما قبلها. تجاورها صورة أخرى لبنات جامعيات أيضاً؛ ولكنهن هذه المرّة متنقبات اختفت كامل زينتهن وراء عباءات سوداء تغطّي أجسادهن مع تاريخ يشير إلى أنهن بنات اليوم. 

كل دولة خليجية لديها نسختها الخاصة من هذه الصورة. تتغير الوجوه والأماكن والسنوات لكنها تقريبا تقول الفكرة نفسها. كنّا مجتمعات منفتحة ثم أصبحت منغلقة. تيارات متشددة قامت باختطاف مجتمعاتنا منذ نهاية السبعينات وأخذتها نحو التطرف؛ لكن الآن الأمور تتغير نحو الأفضل. تم القضاء على هذه التيارات، وها “نحن نعود إلى ما كنّا عليه” كما صرّح بذلك مسؤول خليجي. 

هذا هو ملخّص هذه الفكرة التي تتشارك في ترويجها بعض الحكومات مع وسائل الإعلام التابعة لها مع الفئات الليبرالية واليسارية وحتى في الدراما الخليجية مثل مسلسل “العاصوف” من بطولة الفنان السعودي الكبير ناصر القصبي. 

تتوافق جميع هذه الأطراف على سردية واحدة مؤداها أن لحظة التحوّل المظلمة قد حصلت في العام 1979 مع قيام الثورة الإيرانية وبدء ما عرف بـ”زمن الصحوة”. وأنّ قبل ذلك كان عصراً مديداً من الانفتاح الديني والتسامح وقبول الآخر. 

ولكن هل كنا منفتحين فعلاً ثم أصبحنا منغلقين والآن نعود منفتحين؛ هكذا ببساطة؟ 

هل انتهت الصحوة الدينية فعلاً لمجرد الزجّ ببعض قادتها في السجون وإبراز قيم مؤدّين وصلات الترفيه مكانهم أم أن هذه صورة مضللة؟ ولماذا حين يجري  الحديث عن الانفتاح يتم التغاضي عن الانفتاح السياسي والإعلامي وفي ضمان حقوق الإنسان كما لو أن الانفتاح هو لوحة فرح لاغير وليست منظومة كاملة. إنها أسئلة واجبة الطرح حتى لا نقع أسرى أجهزة التنميط التي تقدم تاريخاً مبتوراً لمجتمعاتنا الخليجية. غالباً هو تاريخ النفوذ السياسي الصاعد إلى سدّة الحكم.

أكثر من ذلك، هل بالفعل تبدو مجتمعاتنا متسامحة، وإذا كانت كذلك، كيف نفسر هذا اللغط والمواقف المتشنجة مع كل مشروع لبناء كنيسة أو معبد لأي أقلية في أي بلد من بلدانا؟ ولماذا تشهد وساءل التواصل الاجتماعي هذا الكم المخيف من خطابات الكراهية والاصطفافات الطائفية؟ التسامح والقبول بالآخر ليس فرضية تقال أو ادعاءً يتم تبنيه رسمياً. التسامح ممارسة فعلية على الأرض، ومجتمعاتنا حتى الآن لا تبدو مجتمعات متسامحة.    

تحت رعاية الدولة

حتى وقت قريب كانت التيارات المتشددة تنشط في ظل الرعاية والدعم اللذين تحظى بهما من مؤسسات الحكم. لقد انطلقت فتاوى الجهاد في أفغانستان والشيشان من تيارات إسلامية مُبَيّأة حكومياً. يمكن قول الشيء نفسه في سوريا، فكل حملات دعم الجهاد وما عرف باسم “تجهيز غازي” خلال الفترة من 2011 إلى 2013 كانت تنظم بشكل قانوني في الدول الخليجية على مرأى من السلطات إن لم يكن بتشجيع منها. 

يمكننا استثناء سلطنة عمان التي لم تلعب بهذه الورقة. ونتيجة لذلك، لم نشهد هجرة الشباب العماني إلى ساحات الجهاد الخارجية مع التنظيمات المتشددة في سوريا والعراق على عكس بقية دول الخليج الأخرى. لكنّ هذا الحال تغيّر بدءاً من العام 2014 مع تبنّي الدول الخليجية مقاربة أخرى مختلفة نوعاً ما عن مقاربتها في العام 2011 مع بدء استشعارها مخاطر جدية على أمنها. 

مذّاك، كرّس الخطاب الخليجي نفسه لأمر آخر، تمّ تصنيف تنظيم الإخوان المسلمين الدولي “جماعة إرهابية” في السعودية والإمارات والبحرين. كما سُنّت العديد من القوانين المتشدّدة باسم مكافحة الإرهاب والتي للمفارقة طبقت بشكل مكثف على دعاة الإصلاح والمطالبين بالتغيير الديمقراطي. 

وتدريجياً أخذت نبرة الانفتاح تتصاعد. تم استبدال شعارات مرحلة كاملة بشعارات أخرى تعلو فيها عناصر الترفيه وإشاعة أجواء ليبرالية من حيث الشكل. لكنها في الجوهر تتمسك برؤية محافظة. خاصّة أنها تفصل مسار التحديث الاجتماعي عن المسار السياسي. 

في الحقيقة، فإن المسار السياسي بدأ بالجنوح لكي يكون أكثر محافظة وشراسة إزاء دعوات الإصلاح عمّا كان عليه الحال خلال الفترة الماضية السابقة على الربيع العربي.

هندسة ناقصة

إن عملية هندسة الانفتاح ومواجهة إرث التيارات المتشددة الجارية في المجتمعات الخليجية تجري بتكتيكات ناقصة. تركز هذه التكتيكات على سلاحين متناقضين. السماح والقمع في الوقت نفسه. الحريات الفردية مقابل قمع الحريات العامّة. الإصلاح الاجتماعي مقابل قمع الإصلاح السياسي. إبراز الأقليات الدينية مقابل قمع الأغلبيات خاصّة تلك التي لها حواضن اجتماعية وقادرة على التنظيم والتحشيد. وأخيراً استرضاء النخب الغربية عبر إتاحة عدد من التنفيسات الاجتماعية مقابل قمع النخب الوطنية المحلية التي لديها رؤى نقدية في عملية الإصلاح وكيفية حصوله انطلاقاً من معرفتها العميقة بمشاكل مجتمعاتها. 

مشكلة هذا النوع من الهندسة الاجتماعية هو أنه يحتوي على هشاشته الداخلية بل على عوامل تدمير نفسه بنفسه. يمكن الاستشهاد هنا بمثالين من المنطقة رافق قيامهما و”انحدارهما” نفس هذه الهشاشة. تتشابه كل من “تونس – البورقيبة” و”تركيا – أتاتورك” نوعاً ما في كيفية إقامة النموذج العلماني المتركز على التحديث الاجتماعي وإنشاء مدونات الأحوال الشخصية المصحوب بقمع شديد للحركات الإسلامية. لكن بعد عقود تبيّن أنّ كل ما قاله هذان النموذجان عنها وعن تراجع قوّتها – نعني الحركات الإسلامية – غير صحيح. فعبر إتاحة انتخابات حقيقية كان أبرز الواصلين إلى الحكم هي الحركات الإسلامية المقموعة نفسها: النهضة في تونس والعدالة والتنمية في تركيا.

نفس النتيجة

ليس من المتوقع أن تكون النتيجة في الخليج العربيّ مغايرة. لا يصلح القمع لهزيمة أية فكرة إلا مؤقتاً. مع أيّ انتخابات حقيقيّة تُتاح للجماعات الإسلامية – التي أرسل قادتها إلى السجون الآن – حرية التنظيم والحشْد فإنهم سيحصدون المواقع المتقدّمة.

لا يوجد أيّ حزب سياسيّ عربي اليوم لديه القدرة على التنظيم والحشْد أكثر من الإسلام السياسيّ. الوسيلة الوحيدة الممكن هزيمتهم بها هي الديمقراطيّة؛ وذلك حين يصِلون ويفشلون.

إذا أرادت دول الخليج شيئاً مأموناً بديلاً عن هذه الجماعات فلتكفّ أوّلاً هي نفسها عن استعمال الدّين لأغراض الحكم. ولتبحث عن مشروعيّة لنفسها من خارج سلّة المشروعيات التقليديّة مثل الدين والقبيلة ودين الدّولة ومفتي الدولة وهيئة كبار العلماء إلى ما إلى آخره من الألاعيب المصمّمة أساساً لتجنّب إشراك الناس في الحكم. الدين في دول الخليج يحتاج لمشروع خصخصة، حيث يكون في الأساس موضوعاً فردياً لا موضوعاً يخص الدولة أو أي من مؤسساتها.

للإستماع إلى بودكاست “توّ النهار” حول هذا الموضوع إضغط هنا، كما يمكنكم الاستماع إلى الحلقة عبر منصات أبل بودكاست/ جوجل بودكاست/ RSS/ سبوتيفي/ يوتيوب

زر الذهاب إلى الأعلى