ولكن هل توجد “مواطنة متساوية” في دول مجلس التعاون الخليجي؟

بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال ما تزال إشكالية “المواطنة المتساوية” موضوعاً مطروحاً في دول مجلس التعاون الخليجي كما لو أنها “كعب أخيل” أو نقطة ضعف مميتة. إذ تعاني فئات كثيرة من التهميش ومن الافتقار إلى حقوق أساسيّة كان من المفترض أن بلدان الخليج العربية قد أنجزتها، أو على الأقل، قطعت فيها شوطاً طويلاً. إلا أن ذلك لم يحصل.

تنتج المواطنة من العضوية في دولة معينة ينتمي لها الفرد ويحمل جنسيتها فيكون سعودياً أو كويتيا أو إماراتيا. قبل هذه العضوية الفرد هو مجرد عضو في جماعة أو قبيلة أو عائلة أو إثنية ثقافية. إن العضويّة في هذا النوع من التشكّلات قد تنتج عضواً في قبيلة أو جماعة لكنها لا تنتج المواطنة. وحدها الدولة التي لها حدود مقرّره ومعترف بها قادرة على إنتاج هذا النوع من الروابط. يتأسس على نشوء رابطة المواطنة وحمْل الجنسية حصول الفرد على امتيازات من الدولة مقابل قيامه بمجموعة من الالتزامات الطوعية.

لذلك، نلاحظ بأن أول ما يعاني منه الفرد حين إسقاط جنسيته هو سقوط هذه الامتيازات التي كان يتمتع بها والتي تمثل نصيبه منولا  الخير العام. فيتم حرمانه مثلاً من الحصول على حق السكن ومن حرية السفر أو العلاج إضافة إلى الخدمات الأخرى.

عادة ما تطرح المواطنة ضمن متلازمة المواطنة والمساواة فلا نقول مواطنة فقط بل “مواطنة متساوية”. يحوّل هذا التلازم بين الكلمتين على مسألة مهمّة هي تساوي المواطنين داخل الدولة في الحصول على الامتيازات والقيام بالواجبات بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والثقافية. وتسمى المواطنة “منقوصة” في حال عدم توافر هذا التساوي.

ومن هنا تحديداً تبدأ المشكلات المؤرقة في دول الخليج العربي.

الشيوخ أبخص

انطلقت عملية بناء المواطنة في الدولة الخليجية بشكل عمودي من قمة الهرم إلى أسفله. فهي لم تنشأ كنتيجة لثورة شعبية مثلاً. ولا من حركات اجتماعيّة تمكنت من النصر، وإنجاز مشروعها، وبالتالي فرض اشتراطات المواطنة على المشيخات الست الحاكمة. لم يحصل هذا في أي دولة خليجية بما فيها تلك الدول التي تمتعت بمجتمعات نشطة سياسياً كالكويت والبحرين وإلى حد ما سلطنة عمان.

أقصى ما حققته هذه الحركات هو أنها وضعت بند المواطنة على جدول الأعمال ولكن بقيت الأسر الحاكمة تتحكم بشكل نهائي في رسم مسار المواطنة وحدوده وإيقاعه. لذلك فنحن ما زلنا إلى اليوم نواجه مشكلة إسقاط الجنسية في عدة دول خليجية دون أن تكون هناك أي مرجعية أخرى يمكن الرجوع لها خارج مرجعية الأسر الحاكمة نفسها. حتى في الدول الخليجية التي تتوافر على منسوب معقول من المشاركة الشعبية يمكن ملاحظة أن هذه المشاركة  مكرّسة لدعم تصوّر الدولة حول المواطنة وليس المجيء بشيء مختلف عنه. ففي الكويت مثلاً يتشارك مجلس الأمة مع الحكومة على السواء في إطالة آلام الكويتيين البدون الذين يجاوز تعدادهم 100 ألف نسمة ويُعتبرون أكبر جماعة لا تحمل جنسية في العالم، مواقف الدولة المتشددة من هذه الجماعة تتم تغطيتها بغطاء من مجلس الأمة المنتخب من الشعب. في مثال آخر من البحرين، يمكن الإشارة إلى قيام مجلس النواب بإفشال مشروعين طرحا داخله وكان آخرهما في العام 2007، من أجل سن قوانين تجرم التمييز الطائفي في البلاد. كما بارك المجلس جميع عمليات إسقاط الجنسية عن مواطنين بعد أزمة 2011. ورغم إرجاع جنسيات البعض منهم في السنوات اللاحقة إلا أنه ما يزال هناك 551 شخصاً منهم بلا جنسية.

ما يؤكد طرحنا هنا هو أن عملية إرجاع بعض الجنسيات المذكورة قد تمّ بقرار من السلطات وليست بضغوط من المجلس المنتخب الذي تبدو وظيفته في الحالين مجرّد “مُحَلّل”. يمكن القول أن الأمر نفسه جرى في الكويت أيضاً فيما يتعلق بإعادة جنسيات 18 شخصاً أسقطت جنسياتهم إثر مظاهرات اندلعت أواخر عام 2012 مواكبة لموجات الربيع العربي.

إن الحكومات الخليجيّة دائماً ما تفرض إيقاعها فيما يتعلق بهذا الملف الحسّاس مهما لُفلفت قراراتها بمظلة شعبية. إن هذه القاعدة تشتغل بشكل قوي في الخليج. فحين قرر أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد الصباح العام 1999 منح المرأة حقوقها السياسية كاملة في الانتخاب والترشح كان موقف مجلس الأمة مجرد صدى متأخر لقراره. وكذلك الحال في السعودية حين قررت الحكومة في السنوات الأخيرة منح المرأة الحق في قيادة السيارة وتعديل نظام الولاية على المرأة وسفرها.

مواطنة لكن درجات

تتشابه كل من الإمارات وقطر والكويت في أن لديها مشكلة ما يعرف بالمواطن الأصلي وغير الأصلي أو المتجنس. كلاهما مواطن وحامل لجنسية البلاد، لكن هناك حقوق ومزايا لدى أحدهما ليست لدى الآخر. في الإمارات هنــاك تمييز في الانتفاع من بعض الحقــوق أو الحصـول علـى معاملة تفضيلية مرتبط بما إذا كان المواطـن إماراتيا بالقانون أو بالتجنس أو بالتبعية. فالمواطنون بالتجنس ممنوعون من الترشح والانتخاب ويمكن إسقاط جنسيتهم ببساطة عند التغيب عن البلاد مدة سنتين مثلاً. الحال نفسه في قطر حيث يمنع قانون الجنسـية المواطنيـن القطرييـن “المتجنسـين” بعد عام 1930 من حق الترشح أو الانتخاب. في الكويت أيضاً، يحـق الانتخاب والترشح للمواطن الكويتي بصفة أصلية فقط أي أن يكون منتميًا للعوائل التي كانت متواجدة في الكويـت ما قبل العام 1920.

مواطنة في حالة سيولة

إن المواطنة والشراكة السياسية في الخليج في حالة سيولة دائمة. تزيد وتنقص وفقاً لموازين القوة القائمة وليست مؤطرة بالجدل العام الحر في المجتمع. عقب احتجاجات العام 2011 منحت سلطنة عمان بعض الصلاحيات البرلمانية إلى مجلس الشورى في النظام الأساسي للدولة. لكن النظام الأساسي الصادر في 2021 قام بتخفيض هذه الصلاحيات إلى مجرد مواد قانونية في قانون مجلس الشورى.

وفي السعودية فقد بدأت أول عملية انتخابات للمجالس البلدية العام 2005. لكن هذه الانتخابات تبدو اليوم في حكم المجهول إذ لا يعرف أحد موعـد إجراء انتخابات الدورة الجديدة للمجالس البلدية. كان برلمان البحرين خلال الفترة من 2002 إلى 2010 يعجّ بمرشحي الجمعيات السياسية المرخصة ما يضفي طابعاً حيوياً على العملية. الآن هناك 9 مترشحين فقط من الجمعيات السياسية لانتخابات هذا العام 2022 وسط طوفان من المستقلين الذين صل تعدادهم إلى 334 مترشحاً. ويعود ذلك إلى ما يعرف بقانون العزل السياسي الذي يحرم أعضاء جمعيات المعارضة المنحلة من المشاركة.

هناك تصور مثالي مفاده بأن مجرد وجود الدولة كفيل بخلق رابطة جديدة عابرة للطوائف والجماعات التقليدية، أي المواطنة. لكن في الخليج فإن الدولة نفسها تستثمر كثيراً في الروابط التقليدية ما يفاقم من دورها وأهميتها ويؤدي في النهاية إلى تعميق الولاء لهذه الروابط فضلاً عن المزيد من الانقسامات. وفي النهاية يؤدي ذلك كله إلى بؤس عملية بناء المواطنة.

المناصب العليا والوظائف القيادية والحساسة في غالبية دول مجلس التعاون الخليجي شبه محتكرة لأبناء الأسر الحاكمة والقبائل والعوائل المقربة منها. ويترتب على ذلك وجود أقليات مهمشة أو جماعات غير ممثلة. هكذا نجد أنفسنا في الحقيقة أمام مواطنات متفاوتة وليست مواطنة واحدة. مواطنات غير متساوية رغم أن كل بلدان الخليج لديها دساتير تنص على تساوي المواطنين.

كنتيجة لهذا العرض يمكن القول إنه لا يكفي وجود دساتير تحوي نصوصاً جيدة حول المواطنة والمساواة. بل لا بد من تبلور قوّة اجتماعية تحميها وتحمي تنفيذها ودوام تنفيذها. إن هذا لن يحصل إذا ظل مسار تعزيز المواطنة يتحرّك هرمياً من السلطة إلى الناس. لابد أن يكون العكس أيضاً أي من الناس إلى السلطة أو من خلال صيغة توافقية تجمع الطرفين.

 

للإستماع إلى بودكاست “توّ النهار” إضغط هنا، كما يمكنكم الاستماع إلى الحلقة عبر منصات أبل بودكاست/ جوجل بودكاست/ RSS/ سبوتيفي:

زر الذهاب إلى الأعلى