الإعلام الحكومي في البحرين وشخصية “البحراني”

رابطة الصحافة البحرينية، لندن، الإثنين 8 نوفمبر 2021: في العام 2019 أثار برنامج تلفزيوني من إنتاج تلفزيون البحرين تحت اسم “منشن” ضجة واسعة بعد عرضه مشهداً تمثيلياً تضمّن ما اعتُبر سخرية من لهجة المواطنين البحرينيين من الشيعة “البحارنة”. تذهب الممثلة سلوى الجرّاش التي تظهر في دور طالبة جامعية إلى مكتب دكتورها المصري الذي يؤدي دوره الممثل البحريني المعروف عماد عبدالله، طالبة تأجيل امتحانها لمصادفته امتحاناً آخر في اليوم نفسه.

خلال هذا الإجراء الروتيني يدور حوار بينها وبين أستاذها مُصَمّم في الأساس من أجل إبراز لهجتها القروية بشكل مقعّر بالغ الافتعال ومبالغ فيه وأحياناً خلاف الواقع لأغراض الضحك والفرجة. فتاة تقلب الثاء فاء (فلافة بدل ثلاثة) لا تنفك تكيل الدعاوى على محدثها غير البحريني (نَيْبة اتْنيبك = أي نائبة تحلّ عليك) مستغلة جهله بلهجتها.

يواكب ذلك مسارات صوتية ضاحكة  (Laugh track)‏ في الخلفية لجمهور مصطنع على شاكلة عروض “الستاند اب كوميدي” داخل الاستديو يتم إظهارها كلما بدا أن الطالبة تفوّهت بعبارات غريبة مبهمة من لهجتها المحلية واستعصت على فهم الأستاذ.

اعتبر كثيرون وخاصة الشيعة “البحارنة” أن المشهد المذكور بمثابة تعريض بلهجتهم ونوع من التنميط الثقافي المقصود الذي يخفي العنصريّة.

الحقيقة أن هذا المشهد يكاد يكون تلخيصاً إلى معظم توظيفات الدّراما التلفزيونيّة و”الأفيهات” التي تظهر على شاشة تلفزيون البحرين الحكومي لشخصية المواطن الشيعيّ “البحراني”. البحراني الأبله أو المهرّج، المتخلّف ذو اللّهجة القروية المقعّرة، الذي لا يظهر على الشاشة إلا من أجل إضحاك المشاهد عليه أو التهكم منه. هذا هو النموذج الثقافي المفضّل لمعظم الإنتاج الإعلامي الذي يقدّم عبر تلفزيون الدولة لإظهار الثقافة البحرانية.

وعدا هذا التوظيف “الكوميدياني” في الدراما التلفزيونية تغيب هوية الشيعة البحارنة ولهجاتهم عن جميع المنافذ الإعلامية الوطنية حتى مع كونهم مكوناً عريضاً في البلاد. إذ يتعذّر سماع اللهجة البحرانية على ألسنة المذيعين ومقدّمي برامج البث التلفزي والمسموع الخاص بالدولة. كما يتجاهل التلفزيون تغطية الفعاليات الدينية للشيعة كموسم عاشوراء، وهو احتفال ديني واجتماعي ضخم يتم تنظيمه سنويا في أول أشهر السنة الهجرية على مدى عشرة أيام ويتضمن أنشطة واسعة تمتد من حيث النطاق الجغرافي لتشمل مختلف قرى ومدن البحرين.

لمعرفة وجه الخلل هنا على نحو أوضح يمكن الإشارة على سبيل المثال إلى تسابق المنافذ الإعلامية الحكومية على إبراز إقامة صلاة في كنيس يهودي في العاصمة المنامة في أغسطس 2021 ضمن المساعي لإبراز “مزايا” اتفاق إبراهيم الذي وقع العام الماضي بين البحرين وإسرائيل. وقد قام المستشار الدبلوماسي لملك البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة بنشر صور متعددة لصلاة السبت وتراتيل التوراة في الكنيس اليهودي العتيق الذي أعيد تجديده مؤخراً قائلا إنها “لحظة تاريخية لأبناء البحرين اليهود وتاريخ يتجدد للتعايش الوطني في مملكتنا الغالية”.

لكن ملحمة التعايش الوطني هذه هي ملحمة لازمة لا متعدية. بمعنى أنه من غير المسموح لها بأن تتعدى هذا الإبراز الانتقائي للتعايش المزعوم فتعرض على سبيل المثال أيضاً احتفالات الطائفة الشيعية في البلاد. أو على سبيل المثال أيضاً، تسمح بتعدية التغطية الأسبوعية لخطب صلاة الجمعة في الإعلام الحكومي بحيث تشمل مساجد الشيعة أيضاً.

لقد صممت هوية التلفزيون والراديو الوطني ثقافيا و”لغوياً” بشكل يتلافى إظهار الهوية البحرانية برموزها وشاراتها ومختلف أشكال تجسدها الثقافي والمادي ما أمكن. كما يتلافى إبراز اللهجة البحرانية بشكل متوازٍ حالها حال أي لهجة محلية عادية. وهذا يجعلها لهجة تحيا في ظل وضع “اغترابي” غريب ومدهش في بلد يتواصل أكثر من نصف سكانه بواسطتها. بمعنى أن هناك لهجة يتحدث بها قطاع واسع من الشعب لكن هذه اللهجة “ممنوعة” الظهور على شاشة تلفزيونه الرسمي على ألسنة مذيعيه ومقدمي برامجه ومديري حواراته.

يظهر الإعلام الحكومي اللهجة التي يتحدث بها سنّة البحرين بشكل مركز كما لو أنها اللهجة “الرسمية” المعتمدة للدوائر والهيئات الحكومية والأدوار الجدية في الوقت الذي تستبعد اللهجة البحرانية لتصبح لهجة هامش أو ثقافة مقموعة. في حالات معينة يضطر بعض الشيعة البحارنة إلى التخلي عن لهجتهم من أجل التكيف مع وضع معيّن في العمل أو في بيئة مغايرة.

ويفاقم ذلك صعوبة توظيف الشيعة البحارنة في هذه المنافذ الإعلامية أصلا والتي يجري قصر جميع وظائفها بشكل مقصود وممنهج على البحرينيين السنة أو العرب الوافدين. في تقرير سابق قدّر مركز البحرين لحقوق الإنسان بناءً على دراسة الواقع الميداني نسبة الشيعة العاملين في قطاع هيئة شئون الإعلام بحوالي 1 % فقط. وبين ست صحف يومية 4 عربية و2 تصدران باللغة الإنجليزية لا يوجد هناك رئيس تحرير شيعي واحد.

لقد أنشئت صحيفة “الوسط” في العام 2002 ضمن ترتيبات بين بيت الحكم والطائفة الشيعية. وقد شكلت استثناءً وحيداً في بيئة إعلامية متمركزة قائمة بشكل أساس على استبعاد الشيعة من أدوار القيادة أو مواقع التأثير. لكن السلطات لم تتحمل وجودها فأقدمت على إغلاقها بعد ما يقارب العقدين متعللة بحجة سخيفة كنشر مقال عن احتجاجات في مدينة مغربية.

يغذي مثل هذا التوجه الإعلامي سوء الفهم وصراعات الهوية والتمثيل الثقافي المضاد بين الجماعات المحلية.

يتطابق الوضع اللّهَجي في البحرين إلى حد كبير مع الخلفية الطائفية. فالشيعة يتحدثون اللهجة البحرانية التي تتحدر منها نحو 12 لهجة فرعية (Sub-dialect) فيما يتحدث السنة اللهجة البحرينية التي يطلق عليها أيضاً السنية. إن هذا التطابق بين اللهجة والطائفة يضاعف من خطورة السياسات التحريرية التي يعتمدها الإعلام الحكومي بتكريس لهجة مهيمنة.

الأمر لا يقتصر على مشاعر الاغتراب التي يستشعرها المواطن الشيعي في إعلام بلده. بل يتعدّى ذلك إلى الصورة التبخيسية التي تشكلها عنه الجماعات المحلية المغايرة الأخرى وإساءة معاملته بموجبها اعتماداً على ذلك. في يونيو 2021 نشر مراهق مقطع فيديو لنفسه لحظة قيامه بإملاء طلبية على عامل شيعي في مطعم للوجبات السريعة. وقد راح يمطره بأسئلة هازئة لحمله على الحديث بلهجته البحرانية من أجل تصويره واستغلال الفيديو لإضحاك متابعيه على مواقع التواصل الاجتماعي.

قاد نشر الفيديو إلى ردة فعل كبيرة معاكسة حيث تلقى هجوماً واسعاً اضطره للاعتذار. المشكلة إنه لم يكن يعلم بأنه كان يقوم بتصرّف خاطيء في حق عامل يقوم بأداء وظيفته. كان يعتقد بأن سلوكه طبيعي تماماً لمجرد أنّ لديه العديد من الأصدقاء الشيعة.

تمثل هذه الحادثة مثالاً نموذجياً على نتائج الضخ الإعلامي الخاطىء الذي درج الإعلام الحكومي تصوير به المواطنين الشيعة. مواطنون من الدرجة الثانية يُقرن بهم التخلف واللهجة غريبة النبْر التي ينبغي أن تستحضر في الأدوار الثانوية للإضحاك والتسلية فقط. أي ليست لهجة فاعلة اتصالية صالحة الاستخدام في العمليات التداولية كأي لهجة أخرى بل لهجة وعرة أو غريبة. معظم حوارات ومقابلات التلفزيون الوطني يتم إجراؤها ــ من واسطة مقدمين محليين أو مجنسين ـــ باللهجة العامية المحكيّة لطائفة ثقافية. لكن بالطبع ليست البحرانية.

لقد تنبه تقرير اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق التي شكلت للتحقيق في أحداث العام 2011 إلى أهمية “السماح للمعارضة باستخدام أكبر للبث التلفزيوني والإذاعي والإعلام المقروء”. كما أكد على أن “استمرار رفض منح صوت مسموع بصورة كافية لمجموعات المعارضة في الإعلام الوطني يحمل في طياته مخاطر تقود إلى زيادة الاستقطاب والانقسام السياسي والإثني والعرقي”. وبعد عشر سنوات من هذا التقرير لا يبدو أن ثمة شيئاً تغير. وهذا لسبب بسيط هو أن شيئاً لم يتغير بالفعل.

يلعب التلفزيون الوطني دور “الجهاز الأيديولوجي للدّولة” بشكل موازٍ لجهاز القمع. وتتجسد في برامجه ورسائله الثقافية وخلفيات مقدميها كل علّات المأزق السياسي ومشكلاته كمظاهر التمييز والإقصاء. وهذا يجعل دوره في “الاستقطاب والانقسام السياسي والإثني والعرقي” أكبر من الدور الوطني.

زر الذهاب إلى الأعلى