الصحافة المأزومة… الصحافة البحرينية المهمة غير المنجزة

الملخص التنفيذي

“” إن الحياة ما هي إلا كلمة.. كبرت كلمة.. وهل البيعة إلا كلمة.. ما دين المرء سوى كلمة.. ما شرف الرجل سوى كلمة.. ما شرف الله سوى كلمة..”

عبد الرحمن الشرقاوي

تعتمد المقالة على ركيزة “أن خضوع الصحافة المحلية لتقنيات “فن الحكم المطلق في الهيمنة” يفقدها التوازن المطلوب، وينزع منها التعددية التي يجب أن تكون عليها. ففي مجتمعات الحكم المطلق يسهل الاجابة على سؤال لماذا تتعثر الصحافة وتفتقد سمة “الاحترامية والموثوقية”، بل وتصبح وسيلة من وسائل الإثراء الشخصي، فالحكم المطلق بطبيعته يستهدف خلق مؤسسات تبدو مستقلة لكنها مطيعة وقابلة للترويض. تسعى المقالة إلى فحص الواقع الصحافي في البحرين، انطلاقا من أن الحرية الصحافية في البحرين لا تزال مهمة غير منجزة، وأن الدولة  خلال الفترات الماضية عملت بكل ضرارة لمحاولة الهيمنة على الصحافة وإفشال دورها التنموي والتنويري، من خلال احتكار السوق الصحفية، واستغلال فنون “الحكم المطلق” لانجاز تلك المهمة. فمهمة الصحافة ظلت غير منجزة ومعلقة في حين استطاعت الدولة انجاز مهمتها في السيطرة على الجسم الصحفي وتطويعه كما تشاء. 

وتخلص المقالة إلى أن الصحافة البحرينية ومنذ عام 2011 بدأت تفتقد إلى القيمية الصحفية المطلوب من الصحافة تأديتها. بل إن أغلب الصحف باستثناء صحيفة الوسط التي تم إغلاقها في 2017 تحولت إلى ما يشبه الصحافة الرسمية حيث تنطق بلسان الحكومة وتوجهاتها، ويقوم الحكم باحتكار الصوت الصحفي ويملي عليه التوجيهات السياسية. وفي الواقع فقد بات من الممكن القول أن الصحافة البحرينية، بفعل تدخلات السلطة، تخلت عن دورها التنموي وتحولت إلى عنصر تأزيم وتشويش على الرأي العام المناهض/ المعارض لتوجهات الحكومة. فالصحافة البحرينية الحالية تقدم منتوجها، كعربون صداقة لنظام الحكم.

قد تبدو السلطة، سعيدة جدا بانجاز مهمتها، حيث تحقق لها أحد أهم “الأغراض السلطوية للحكم المطلق”، وهو تفتيت الرأي العام والسيطرة على قنوات ومجالات الفضاءات العامة وفي مقدمتها الصحافة، وأن تصبح الكثير من المقالات الصحفية والكتابات، مبنية على “الاستخدام الأعوج للغة”. ويتاكد هذا المنحى من تحليل اللغة المستخدمة في الكتابات الصحفية المحلية حيث تدلل نتائج تحليل المضمون إلى أن اللغة السائدة في الصحف المحلية المتداولة، ليست لشرح الحقائق بل لتشويهها ومحاولة طرح “حقائق بديلة”. 

فنون الحكم المطلق في الهيمنة

قد تبدو الصورة قاسية ومؤلمة عند النظر إلى واقع الصحافة المحلية في البحرين، بالرغم أن التاريخ يسجل للبحرين الريادة في الخليجية في تأسيس وطباعة الصحف. فقد سبقت البحرين دول الخليج في إصدار أول صحيفة ورقية في العام 1939، على يد عبدالله علي الزايد لتصبح أول صحيفة يومية تصدر في منطقة الخليج العربي. 

وشهدت البدايات الأولى للصحافة البحرينية وتحديدا في عقد الخمسينيات من القرن الماضي (1942- 1961م) اطلاق عدد من الصحف والمجلات والاصدارات المتنوعة لكل منها حكاية مع المنع والإيقاف ومحاولات السيطرة على الخطاب الصحفي والإعلامي من خلال قانون المطبوعات الذي أقر في 1956 على خلفية الاضطراب السياسي الذي قادته الهيئة العليا في الفترة 1954-1956 والذي انتهي بالقاء القبض على القيادات السياسية ونفيهم خارج البحرين وفرض أجواء قميعة شديدة القسوة على الصحف والإعلام. استمر الوضع بمثل هذه الوتيرة حتى عشية الاستقلال في 1970 حيث تنفست الصحافة بعض الحريات، إلا أن الدولة في أغسطس/آب 1975 فرضت حالة الطورائ وملاحقة الكلمة تحت عباءة قانون أمن الدولة. 

بعد عقود، شهدت البحرين تحسناً في مجال حرية الصحافة حين حصلت على 68 نقطة في 2002، وظل مستواها ثابتاً تقريباً بين العامين 2003 و2010، إذا تراوح عدد النقاط التي حصلت عليها في تلك الفترة بين 70 و72 نقطة. إلا أنه بعد الانخفاض الحاد الذي شهدته حرية الصحافة في البحرين في عام 2011؛ وحصلت فيه على 84 نقطة، استمرت البحرين في التدهور في العام 2012، وانخفضت نقطتين إضافيتين عن العام الذي سبقه، لتحصل على 86 نقطة، فيما كان انخفاض النقاط لديها في العام 2013 هو الأكبر في تاريخها والذي حصلت فيه على 87 نقطة (صحيفة الوسط العدد 4987 – الإثنين 02 مايو 2016م). استمر الهبوط والتراجع كثابتة في حق البحرين تتحسن درجة ثم تتراجع درجتين لكنها تبقى في نهايات  السلم السيء للحريات الصحفية والإعلامية. 

في عام 2014 واجهت البحرين سيل اتهامات حقوقية فيما يتعلق بحرية الصحافة، منظمة “فريدوم هاوس” صنفت البحرين ضمن قائمة الدول “غير الحرة” في الإنترنت، معتبرة أن حرية الصحافة قد تراجعت. استمرت هذه التقارير في التأكيد على وجود التراجع وارتفاع حدة الهيمنة على الصحافة المحلية خصوصا بعد إغلاق صحيفة الوسط التي كانت الصوت الوحيد المحسوب على المعارضة في حين تمتلك الحكومة السيطرة على بقية وسائل الإعلام ومن بينها الصحف المحلية. 

لم تكن تلك المرة الأولى التي تستهدف فيها الحكومة صحيفة الوسط، فقد تكرر استهداف السلطات للصحيفة والعاملين فيها. قامت حكومة البحرين بإغلاق الصحيفة منذ 2011 في أربعة مناسبات: حيث أوقفت نشاطاتها ليوم واحد في بداية الأحداث – مما تسبب في استقالة بعض كبار الموظفين في الصحيفة. في 2015، علقت الحكومة نشاطات الوسط لمدة يومين بسبب عدم وصفها الخسائر العسكرية البحرينية في اليمن بـ “الشهداء”. وفي يناير 2017، حظرت البحرين أعمال الوسط يسبب نشرها صور ضحايا التعذيب الذين قامت حكومة البحرين بإعدامهم. والجدير بالذكر، أن السلطات البحرينية قامت بتعذيب أحد مؤسسين الوسط، كريم فخراوي، حتى الموت.

فيما يتعلق وفضاءات الإعلام الجديد، كان الموقف الحكومي يتذاكي حين يربط الصحافة بالتوصيف المهني المحدود أي من يمتلك سجلاً رسمياً لدى وزارة الإعلام بالعمل الصحفي. وهي الحجة التي يستند إليها الرد الرسمي على بيانات المنظمات الحقوقية الداعية لحماية الصحفيين ومتعاطي الأشكال الجديدة للإعلام ويصر على أنهم مدانين جنائيا.

عملياً فإن زيادة الخناق على حرية الكلمة لم يكن وليد لحظة 2011 بل سبقتها محاولات واضحة المعالم تؤكد سعي الحكومة لبسط هيمنتها على وسائل الإعلام ومحاربة الكلمة” كانت الحكومة قد أوقفت النشرات الدورية الصادرة عن الجمعيات السياسية المعارضة منذ منتصف 2010، وهو ما وصفته تلك الجمعيات “بمحاولة التعتيم على الرأي الآخر والتضييق عليه”

بفعل تلك السطوة تأسست أعراف صحفية مخيبة للآمال، وتورات بفعل ذلك، رؤية صحف مستقلة ومعبرة عن الرأي العام ومشاكله وقضاياه. وهي قضايا أشار إليها تقرير اللجنة الملكية المستقلة لتقصي الحقائق (لجنة بسيوني) بوضوح، إذ تم انتقاد مضمون وخطاب وسائل الإعلام الرسمي وخلص التقرير إلى أن تلفزيون البحرين عرض مواداً تشتمل على “لغة مهينة وتغطية تحريضية للأحداث، وقد يكون بعضها انطوى على التشهير”. 

وأثبت تقرير اللجنة “انحياز وسائل الإعلام البحرينية إلى السلطة في البحرين”، موصياً حكومة البحرين “بأن تتبنّى نهجاً أكثر مرونة في ممارستها الرقابة، وأن تتيح للمعارضة مجالاً أوسع في البث التلفزيوني والإذاعي ووسائل الإعلام المطبوعة” وقد مارس هذا الإعلام، ولايزال، دوراً كبيراً في الشحن الطائفي وتحويل الصراع بين أطراف المعارضة والحكومة إلى صراع بين طائفتين. وصار من الملاحظ غياب الأخبار بمفهومها الكلاسيكي لأن غالبية الأخبار – حتى غير السياسية منها – تحمل بعداً يرتبط بالأزمة السياسية. وبذلك تحولت الصحف المحلية – باستثناء وحيد هو صحيفة “الوسط”- إلى نسخ موسّعة من نشرات الإعلام الرسمي” (صراع الإعلام في البحرين، نشرة “صدى” الصادرة عن معهد مؤسسة كارنيغي 03 أيار/مايو 2012).

تقنين القمع

يشير سجل الصحافة المحلية (1954-1980) إلى اختفاء العديد من الصحف والمجلات من السوق المحلية لقلة الامكانيات والعجز على تحمل الأعباء المالية في الطباعة والتوزيع. إلا أن الفحص الدقيق لمثل هذا التعثر يفضي إلى مجموعة أسباب أخرى أدت مجتمعة مع الأزمات المالية إلى تشكيل السوق الصحفية وفق متطلبات السلطة الحاكمة. فالعديد من تلك الصحف توقفت نتيجة الملاحقات القانونية أو تشديد الخناق على ظروف صدورها بما يؤدي في النهاية إلى توقفها. كانت السلطة تستعين بترسانة هائلة من القوانين ومن أبرزها قانون النشر والمطبوعات الصادر في 1956. ونتيجة العمل بهذا القانون المضيق على حرية العمل الصحفي تحولت الصحافة المحلية من كيان مستقل إلى ما يشبه “الجماعات الوظيفية” التي تستثمر فيها السلطات الحاكمة، ويتعين عليها مواكبة توجهات السلطة وإلا تعرضت للإغلاق أو المنع.

يفيدنا هذا السرد التاريخي في تتبع نزعتي “المحاصرة والهيمنة” كإحدى فنون الحكم المطلق في التعامل مع المجال العمومي والمجال الصحفي على وجه الخصوص. إذ استمر العمل بمضمون قانون المطبوعات 1956 وبقية القوانين الأخرى حتى في مرحلة الاستقلال واستبداله بتشريع جديد لكنه يحمل المضمون نفسه. ولم يختلف الوضع حتى بعد دخول البحرين مرحلة الانفتاح السياسي في 2001 حيث أصدر قانون تنظيم الطباعة والنشر في 2002 وهو يحمل الكثير من الطعون الحقوقية كما يحمل الكثير من أدوات العسف والتحكم والعزل. 

في 2002 أصدر السلطات مرسوم رقم (47) لتنظيم الطباعة والنشر، ويستخدم هذا القانون إلى الآن لفرض قيود صارمة على الصحفيين، والمراسلين، والمدونيين، وصحفيي الشارع الذين يستخدمون الإنترنت لنشر موادهم الإعلامية، ومحرري الصحف اليومية. ويشتمل القانون على 17 نوعًا مختلفًا من العقوبات والتي بموجبها قد يتم تغريم الصحفيين أو حبسهم (قوانين المطبوعات الجديدة في البحرين تشكل تهديدا للصحفيين | منظمة أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان في البحرين

ووفقا لمواد هذا القانون يمكن أن يواجه الصحفيون تهمًا جنائية وحبسًا إذا تم اتهامهم بإذاعة أخبار كاذبة أو التحريض على كراهية النظام أو إهانة مؤسسة رسمية، أو إهانة الملك، أو التحقيق في المواضيع والممارسات المتعلقة بالأمن القومي. تعتمد الحكومة في تفعيل هذه التهم على مطاطية المواد القانونية وقابليتها للتكييف المرن والقدرة على توسيع تجريم أي ممارسة صحفية فضلاً عن فرض عقوبات قاسية استناداً إلى مواد قانون مكافحة الإرهاب على سبيل المثال. ظلت الحكومة تعرض مسودات قانون جديد للصحافة والنشر وسريعا يتم سحبه وعدم مناقشته أو إقراره. وهو أمر جيد خصوصا إذا ما تأكد أن مشاريع الحكومة فيما يخص قانون الصحافة تستهدف محاصرة الصحافة وعزل الصحفيين وتطويع الصحافة بما يتلائم وأجندة السلطة. آخر تلك المحاولات كانت قبل عامين حين طرحت الحكومة مشروعا جديدا لتنظيم الصحاقة والمطبوعات رأت فيه جهات صحفية أنه قانون يكرس العزل تركة القوانين المقيدة ويشرعها بطريقة لا تخلو من المخاتلة والغموض والاتكاء على مطاطية المواد القانونية وحزمة القوانين الأخرى المقيدة لعمل الصحفي.

يضاف إلى ذلك، غياب أي تشريع يخص حق الوصول إلى المعلومات التي يحتاجها أي صحفي في عمله، ما يؤدي إلى اعتماد الصحافة في تحقيقاتها على ما توفره لها الجهات المعنية من معلومات في حين يمكن للقضاء أن يحاسب أي صحفي على نشره أية معلومات تحت عنوانين متعددة  يوفرها قانون الصحافة والإعلام أو قانون مكافحة الإرهاب أو غيرها من القوانين الأخرى. وقد وصفت لجنة حماية الصفحيين (CPJ) الوضع البحريني بعبارت أشد قسوة في تقرير لها نهاية عام 2013 حيث رأت أن “الحكومة البحرينية تقمع أي مصدر للمعلومات لا يتفق مع روايتها الرسمية للأحداث رغم تأكيداتها اللفظية على أهمية الصحافة” ما يؤكد الوضعية المرزية التي تعشيها الصحافة في البحرين.

ملكية الرأسمال الموالية

إلى جانب التشريعات المقيدة وترسانة القوانين التعسفية يبدو أن الحقل الصحفي في البحرين أكثر تعقيداً من مجرد التعامل مع القانون القابل للتسامح أو الغلظة. فإلى جانب ذلك يمكن التأكيد على الدور الخطير الذي تلعبه ملكية الرأسمال المسيطر على الصحف الصادرة في البلاد، وتحديد ملكية الأشخاص للامتياز الصحفي. أشار تقرير اللجنة الملكية لتقصي الحقائق الصادر أواخر نوفمبر 2011 بوضوح إلى أن الحكومة تسطير وتحتكر تماما وسائل البث التلفزيوني والإذاعي كما أشار إلى تنامي نزعات الكراهية والتحريض على الجماعات السياسية المعارضة وفقدان الأخيرة فرص الحديث عن نفسها وعن مشاريعها، وبالتالي فإن هناك خيوط أخرى وجذور أعمق تتيح للسلطة التحكم في الحقل الصحفي وفي الصحافة بشكل مباشر من خلال نسج شبكات أقتصادية مختلفة الاحجام بين مجالس إدارات الصحف والدولة.

إن ما يثير الغرابة هنا أن الصحف المحلية المتبقية رغم كونها مصنفة صحفا موالية إلا أن الصراع بينها يبدو جليا لأي مطلع على مصدر التمويل والجهة الحكومية الداعمة لها. فصحيفة الوطن تعتبر لسان الديوان الملكي المباشر في حين أن صحيفة البلاد كانت مصنفة لخدمة جناح رئيس الوزراء الراحل خليفة بن سلمان آل خليفة الذي تميل جريدة اخبار الخليج إلى موالته وتفضيل النشر عن انجازاته ومواقفه السياسية في شئون الإقليم والشئون المحلية كما تعتبر صحيفة الايام الأوسع انتشار محسوبة على جناح الملك ومعبرة عن التوجهات الخاصة به. 

الصحف التي لم يتوفر لها راعي من أحد رجالات الحكم فكان مصيرها الإنتهاء والتصفية المالية وهذا ما يؤكد الدور الخطير لملكية الصحف ورعايتها ماليا. فصحيفة الوقت والميثاق على سبيل المثال واجهتا مصاعب مالية أدت إلى تصفية كلتا الصحيفتين رغم اختلاف حيثيات نقصان الدعم وتدخل الحكومة في التضييق على موارد صحيفة الوقت. أما صحيفة الوسط ورغم استقلالها المالي وقدرتها على تحمل أعباء الطباعة والتكاليف فقد واجهت الترسانة المقننة من القوانين المقيدة لعمل الصحافة وانتهى بها الحال إلى توقيفها قسريًا خلاف القانون ودون حكم قضائي ثم تمت تصفية أملاكها.

رقابة ومكرمات

يؤكد الكثير من العاملين في الحقل الصحافي وجود رقابة متقنة من قبل جهات عليا على أعمالهم اليومية وأن هناك عقوبات غير مباشرة تفرض على الصحف إذا ما نشرت مواضيع أو مقالات غير متوافقة والسياسات العامة للدولة داخل البحرين وخارجها. المراقبة اللاحقة على الصحف الصادرة قد تؤدي بعض الأحيان إلى فصل الصحفي من الصحيفة. وفي حالات أشد تجذرا، تلجأ الحكومة إلى تقليص الإعلانات التي تستطيع الصحيفة تمويل نفسها من خلالها. ونظرا لاعتماد الصحف على إعلانات الحكومة يتجه رؤساء التحرير إلى مراعاة التوجهات الحكومية في التغطيات الصحفية وفي وضع قواعد تحريرية (غير مكتوبة) لمحاسبة المقالات الصحفية وصياغات الأخبار واختيار التعابير بعناية ودقة. وقد درجت الصحف المحلية على تخصيص الصفحات الأولى والثانية والثالثة لتغطية الأخبار الرسمية الواردة من الديوان الملكي أو ديوان رئيس الوزراء أو غيرهم من القيادات السياسية. ونتيجة لهذه القواعد المرعية في تعامل الصحافة مع السلطات السياسية والحكومة وخضوعا للقوانين المقيدة لحرية العمل الصحفي، تنتهي الصحف إلى انتهاج سلوك الطاعة والامتثال لسياسات الدولة ووجهة النظر الحكومية دائمًا وأبدًا. 

ولهذا، تبتكر الدولة قواعد محفزة تشجع العاملين في المجال الصحفي على منهجية سلوك الطاعة وتوقير ما يصلهم من عطايا (قانون الصحاـفة في البحرين مثالي – صحيفة الأيام – العدد 8427 الأحد 6 مايو 2012) فالتغطيات المميزة أو المقالات الداعمة لسياسات الدولة وبالتالي الصحفيين القائمين عليها يترقبون عطايا ومكرمات خاصة وتفضيلات خاصة لقضاء أمورهم الشخصية وتسهيل المعاملات الرسمية وغيرها. ويتم تخصيص جوائز تمنح من قبل الحكومة لبعض الصحفيين المتميزين في تعظيم سياسات الدولة أو الدفاع عن منهجيتها في إدارة الحكم، مثال ذلك جائزة رئيس الوزراء خليفة بن سلمان للصحافة.

عبر هذا الثالثوث وهذه الادوات المباشرة وغير المباشرة يُعمل “الحكم المطلق” فنونه في الهيمنة والسيطرة بل والقمع في أحيان عديدة. يمكن القول إن “قانون الصحافة الحالي به عيوب واضحة حيث أنه ينص على عقوبات جنائية في حق الصحفيين. كما أنَّ إجراءات الترخيص لا تتسم بالمرونة المطلوبة خاصة لجهة ترخيص الصحف اليومية. وما زال الموقف من الصحافة الإلكترونية غامضاً لجـهة صلاحية منع وحجب المواقع الإلكترونية. وهذه الصلاحية تمارسها الآن وزارة الإعلام” (المرصد البحريني “أي مستـقـبل لحرية الصحافة في البحرين؟”. كما وأضيف إليها مؤخرا هيئات رقابية أمنية متخصصة مثل وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية التي تتولى عملية رصد ومراقبة المحتوى الصحفي الرقمي أوما يعبر عنه بصحافة المواطن. 

التطويع الذاتي للصحافة وانعدام الثقة

يبقى توصيف السقف المنخفض للحريات الصحفية عاجزًا عن توصيف الواقع الحالي للحقل الصحفي في البحرين. والعبارة الأدق التي تلامس الواقع، هي وصول المجال الصحفي حاليًا إلى انسداد حقيقي وإلى غياب الثقة المعتادة في ما تنتجه الصحف المحلية. وهذا يفسر أيضًا حرص الحكومة على بذل جهد إضافي في مجالين رئيسيين لانجاز مهمة السيطرة والهيمنة على الفضاء العمومي من خلال:

مجال  اللجوء إلى أدوات القهر الجديدة: زيادة الترسانة القانونية الراصدة لمجمل الحراك الإعلامي ووضع قوانين تجرم التعامل الإعلامي غير المرضي عليه من قبل الحكومة. وسنجد في هذا المجال تشريعات عديدة لا حدود لها في ملاحقة الناشطين وصحفي المواقع الإلكترونية. 

وقد أشارت منظمة “مراسلون بلا حدود” في تقريرها السنوي لعام 2021 إلى جملة من الانتهاكات الجسيمة بحق الصحفيين مؤكدة على أن الصحافة في البحرين تتعرض إلى “قمع متواصل لا ينقطع” فبتهمة المشاركة في المظاهرات أو التخريب أو دعم الإرهاب، عادة ما يواجه الصحفيون والصحفيون المواطنون أحكاماً بالسجن تصل إلى المؤبد في بعض الحالات. وبينما يتعرض الكثيرون لسوء المعاملة، يُحرم آخرون من جنسيتهم. كما أن الصحفيين المحليين العاملين لحساب وسائل الإعلام الدولية يجدون صعوبات جمة لتجديد اعتمادهم منذ عام 2016، في حين أن معظم الفاعلين الإعلاميين الذين يعيشون في المنفى يواجهون ملاحقات قضائية تتهمهم فيها السلطات بارتكاب “جرائم إلكترونية”، على خلفية انتقاداتهم لسياسات المنامة على منصات التواصل الاجتماعي. أما بالنسبة للصحفيين الأجانب، فقد بات الحصول على تأشيرة أمراً في غاية التعقيد.

مؤخرا تمت إثارة فضحية تجسس النظام في البحرين على مجموعة نشطاء وكشف تقرير رسمي عن وجود برمجات عديدة تستخدمها أجهزة الدولة في البحرين لمراقبة الانترنت والاتصالات وخلص التقرير إلى أن البحرين “توظف العديد من الوسائل لحظر محتوى الإنترنت أو قمعه. كما تلجأ إلى التشويش الممنهج على الإنترنت لإحباط التظاهرات. وأكد التقرير أن البحرينين الذين ينشرون على الإنترنت محتوى ينتقد الحكومة، يتعرضون للملاحقات من قبل وحدة الجرائم الإلكترونية في وزارة الداخلية، وكذلك يتعرضون للاعتقال. وأن البحرين تراقب النشطاء الحقوقيين والمعارضين وأعضاء في المعارضة السياسية. كل ذلك يتم عبر استخدام الحكومة بشكل متزايد برامج التجسس وضوابط الانترنت من قبيل FinFisher و Hacking Team و NSO Group.” كانت البحرين قد اشترتها منذ 2010 

مجال تشويش الحقيقة: تسميم وشيطنة الإعلام المعارض وخوض حروب إلكترونية على الساحة نفسها. ومع غياب المساحة المستقلة للكتابة الصحفية غابت معها مقالات الرأي الرصينة عن صحفات الصحافة المحلية واستبدلت بكتابات باهتة المضمون فاقعة التلميع لسياسات الدولة. 

ويكشف تحليل مضمون عينة عشوائية لمقالات الرأي في عدة صحف عن توجه أصحاب تلك المقالات وبناءها على مساحة واسعة من الكراهية والتحريض. وتشير بعض التقارير الحقوقية إلى تزايد حدة خطاب االكراهية في مضمون أغلب الصحف المحلية مما يثير أسئلة حول غاية تلك الخطابات الموغلة في تقسيم البنية المجتمعية والانتصار المبالغ فيها لسياسة الحكومة. ربما يقال أن خلف هذا المشهد المشحون بالكراهية انقسام مجتمعي وسياسي عميق تعكسه مقالات الرأي ولكن هذا التوجه يجانبه الصواب إذا ما عرفنا أن ثقة الجمهور في تلك الكتابات باتت هشة وأنها كتابات لا تمثل المجتمع البحريني. 

تخلت الصحافة المسموح لها بالتداول عن دورها كسلطة مراقبة وتوجهت نحو القضاء على المؤسسات والأفراد الذين لا ينسجمون مع وجهة النظر الرسمية. أصبحت الصحف نسخة موسعة عن الأخبار الرسمية مما حولها إلى صحف فاقدة التأثير مجتمعياً ومنزوعة الثقة. ومن جهة أخرى تحولت الصحف إلى أداة من أدوات القهر الجديدة تهمتن انتاج خطاب التحريض والكراهية بشكل دائم وبلا مبرر في كثير من الأحيان.

التوصيات

تبدو الحاجة ماسة إلى تخليص المجال الصحفي من هيمنة الدولة وذلك عبر التأكيد على جملة قضايا استعرضتها المقالة وأبرزها:

  1. حاجة البحرين إلى قانون صحافة حديث يلغي التركة القانونية السيئة التي أعتمدت لأكثر من نصف قرن.
  2. إلغاء التشريعات والقوانين المقيدة للحريات الصحفية والإعلامية خصوصا تلك التي تركزوتستهدف منصات الإعلام الجديد والاعتراف بصحافة المواطن إلى جانب الصحافة التقليدية
  3. السماح بإعادة تمثيل الجسم الصحفي نقابيا ومهنيا من خلال رفع اليد عن المؤسسات الصحافية
  4. الغاء الأحكام القاسية التي صدرت بحكم بعض الصحفيين والإعلاميين والمثقفين وإعادة جنسياتهم المسقطة عنهم.

لتحميل التقرير من هنا

زر الذهاب إلى الأعلى